تنمية مهارات أولادك من خلال الرسم
في الآونة الأخيرة، ظهرت العديد من المنشورات التي تُهاجم استخدام الرسومات الجاهزة للتلوين للأطفال، بحجة أنها تُعيق إبداع الطفل وتُوقف نموه الفكري والفني. وبينما يُشدد بعض المربّين على أهمية الرسم الحر كوسيلة لتعزيز خيال الطفل سنتعرف فى هذا المقال على النشاطين بعمق ومن منهم سيساعد على تنمية مهارات الاولاد؟ ومتى يصبح التلوين الجاهز مشكلة حقيقية؟
أهمية التلوين الحر
- تنمية الإبداع والتفكير الأصيل فالرسم الحر هو المساحة التي يبتكر فيها الطفل عالمه الخاص، فيقرر ماذا يرسم وكيف يرسمه، مما يجعله مُنتِجاً للأفكار لا مستهلكاً لها.
- التعبير عن المشاعر فعندما لا يجد الطفل الكلمات، يصبح الرسم لغته الخاصة. يمكنه أن يرسم غضبه، فرحه، أو حتى مخاوفه. إنها وسيلة تفريغ عاطفي آمنة.
- تطوير مهارات حل المشكلات "كيف أرسم قطة بأربعة أرجل؟" "ما هو اللون الذي سأستخدمه للسماء؟" هذه الأسئلة البسيطة هي تحديات إبداعية صغيرة تبني قدرته على التفكير واتخاذ القرار.
- تعزيز الثقة بالنفس عندما ينهي الطفل رسمة من خياله بالكامل، يشعر بالإنجاز والفخر بـ "صُنعه"، مما يعزز ثقته بقدراته.
- يتيح للطفل حرية التفكير والإبداع دون قيود.
- التعبير عن المشاعر حيث يُعبر الطفل عما بداخله بطريقة غير لفظية من خلال الرسومات والألوان.
- تنمية مهارات حل المشكلات حين يقرر الطفل كيفية رسم شكل أو فكرة معينة، يتعلم التخطيط واتخاذ القرارات.
- تشجيع الاستقلالية فيعتمد الطفل على نفسه بالكامل في تنفيذ ما يتخيله.
أهمية التلوين الجاهز في تطوير مهارات الطفل
التلوين الجاهز هو نشاط مُمتع وترفيهي، لكن له دور تربوي كبير في تنمية مهارات محددة، منها:
- تنمية المهارات الحركية الدقيقة فيساعد الطفل على التحكم بالقلم، والتنسيق بين العين واليد عند التلوين داخل الخطوط.
- تطوير التركيز والانتباه حيث يتطلب التلوين وقتًا وتركيزًا لإكمال الرسمة، مما يُنمي قدرة الطفل على الصبر والانتباه للتفاصيل.
- تمييز الألوان وتنظيمها فيكتسب الطفل مهارة التعرف على الألوان وتنسيقها بطرق مختلفة.
- تعزيز الثقة بالنفس عندما يُنهي الطفل رسمة مُتقنة، يشعر بالإنجاز والاعتزاز بنفسه.
الرسم الحر أم التلوين؟ (وهل السؤال صحيح أصلاً؟)
هنا نضع النشاطين في مقارنة مباشرة ونوضح أن لكل منهما دوره.
- يمكن القول إن الرسم الحر يخدم "الإبداع" بينما يخدم التلوين "الدقة والمهارة".
- الرسم الحر هو وسيلة للتعبير عن الذات، أما التلوين فهو وسيلة لتنفيذ مهمة محددة.
الخلاصة أن الرسم الحر والتلوين الجاهز ليسا متعارضين؛ بل يُكمل كل منهما الآخر
الطفل يحتاج إلى مساحة ليبتكر فيها بحرية، ويحتاج أيضاً إلى أنشطة منظمة تبني مهاراته وتركيزه. المشكلة ليست في دفاتر التلوين، بل في الاكتفاء بها فقط.
كيف نحقق التوازن بين النشاطين؟
- تخصيص وقت محدد لكل نشاط
- وقت للتلوين الجاهز لتطوير التركيز والدقة.
- وقت للرسم الحر لتحفيز الإبداع والخيال.
- تشجيع الطفل على التجربة والمزج بين الأنشطة
- يمكن للطفل أن يُلون بعض الرسومات الجاهزة ثم يُضيف رسوماته الخاصة عليها.
- تقديم أنشطة متنوعة
- تعريض الطفل لتقنيات فنية مختلفة (الرسم بالفرشاة، التلوين بالماء، استخدام الطين) ليختبر مهاراته المتعددة.
النقد على المنشور المُهاجم للتلوين الجاهز
المنشور الذي يرفض الرسومات الجاهزة للتلوين يُبالغ في تحجيم دور هذا النشاط. من غير المنطقي اعتبار كل نشاط لا يُحفز الإبداع "ضارًا" أو "معيقًا".
الأطفال يحتاجون لتطوير مهارات متعددة، وليس فقط الإبداع.
الرسم الحر وحده لن يُنمي مهارات التنسيق والدقة عند الأطفال الصغار بنفس فعالية التلوين الجاهز.
هناك أطفال قد يستمتعون بالتلوين أكثر من الرسم، ومن المهم أن نُحترم تفضيلاتهم الشخصية ونُشجعهم تدريجيًا على التجربة.
الأساس النفسي والنمائي وراء كل نشاط
لفهم القيمة الحقيقية لكل من الرسم الحر والتلوين الجاهز، يجب أن نغوص أعمق من مجرد الملاحظة السطحية، لنرى كيف يساهم كل نشاط في بناء عقل الطفل وقدراته بطرق مختلفة ومتكاملة. فكل ورقة وقلم ليسا مجرد أدوات للتسلية، بل هما محفزات لعمليات عصبية ونفسية معقدة.
الرسم الحر: صالة الألعاب الرياضية للخيال والوظائف العليا
بعيداً عن كونه مجرد شخبطات عشوائية، يُعتبر الرسم الحر بمثابة تمرين مكثف للفص الأيمن من الدماغ، وهو الجزء المسؤول عن الإبداع، والتفكير الشمولي، ومعالجة الصور. عندما يمسك الطفل بقلم أمام ورقة بيضاء، فإنه لا يرسم فقط، بل يقوم بعدة عمليات عقلية جوهرية لنموه:
- التفكير الرمزي (Symbolic Thinking): هذه هي اللبنة الأولى لبناء اللغة والقراءة. فعندما يرسم الطفل دائرة ويقول "هذه شمس"، أو يرسم خطوطاً طولية ويقول "هذا أبي وهذه أمي"، فإنه يتعلم أن الرموز يمكن أن تمثل أشياء وأفكاراً حقيقية. هذه المهارة هي نفسها التي سيستخدمها لاحقاً ليفهم أن حرف "أ" يمثل صوتاً معيناً.
- التخطيط وحل المشكلات: الورقة البيضاء هي تحدٍ بحد ذاتها. أسئلة مثل "أين سأرسم البيت؟ وهل سيكون بجانبه شجرة؟ وكيف سأجعل السيارة تبدو وكأنها تتحرك؟" هي كلها مشاكل إبداعية صغيرة يقوم العقل بحلها، مما ينمي مهارات التخطيط والتفكير النقدي لديه.
- بناء السرد القصصي: الكثير من رسومات الأطفال ليست مجرد صور ثابتة، بل هي مشاهد من قصص تدور في أذهانهم. هذا النشاط يعزز قدرتهم على تنظيم الأفكار وبناء تسلسل منطقي للأحداث، وهي مهارة أساسية في التواصل والتعبير عن الذات.
التلوين الجاهز: تدريب منظم لمهارات الدقة والتركيز
على الجانب الآخر، لا يقل التلوين الجاهز أهمية، لكنه يخدم أهدافاً نمائية مختلفة ترتبط بشكل مباشر بالاستعداد الأكاديمي والمهارات الحياتية. إنه أشبه بتمرين منظم يستهدف ما يعرف بـالوظائف التنفيذية (Executive Functions)، وهي مجموعة من المهارات العقلية التي تساعدنا على التحكم في سلوكنا وإنجاز المهام.
- التحكم المثبط (Inhibitory Control): القدرة على كبح الرغبة في التلوين خارج الحدود هي تدريب مباشر على ضبط النفس والتحكم في الدوافع. هذه المهارة ضرورية في الفصل الدراسي، مثلاً عند انتظار الدور لرفع اليد أو الالتزام بقواعد اللعبة.
- الانتباه المستمر والتركيز: إكمال رسمة مليئة بالتفاصيل يتطلب من الطفل تركيز انتباهه لفترة طويلة، وتجاهل المشتتات من حوله. هذا يبني "عضلة التركيز" التي سيحتاجها للاستماع إلى شرح المعلم أو إكمال واجباته المدرسية.
- تنمية المهارات الحركية الدقيقة: التحكم في القلم للبقاء داخل الخطوط الضيقة يقوي عضلات اليد والأصابع وينمي التنسيق بين حركة العين واليد. هذه المهارة هي الممهد الرئيسي للقدرة على الإمساك بالقلم بشكل صحيح وكتابة الحروف والأرقام بوضوح ودقة.
متى يصبح التلوين الجاهز مشكلة حقيقية؟
على الرغم من كل الفوائد التي ذكرناها للتلوين الجاهز، إلا أنه مثل أي أداة تربوية أخرى، يمكن أن يتحول من نشاط بنّاء إلى عائق عند استخدامه بشكل خاطئ أو مبالغ فيه. المشكلة لا تكمن في دفاتر التلوين بحد ذاتها، بل في السياق والطريقة التي تُقدَّم بها للطفل. يصبح التلوين الجاهز مشكلة في الحالات التالية:
1. عندما يكون هو الخيار الفني الوحيد المتاح:
إذا كانت كل تجارب الطفل الفنية محصورة في ملء فراغات رسومات جاهزة، فنحن نرسل له رسالة ضمنية بأن الفن هو مجرد اتباع للتعليمات وليس إبداعاً. هذا الاكتفاء التام بدفاتر التلوين قد يخنُق خياله ويجعله يشعر بالارتباك أو العجز عند مواجهة ورقة بيضاء فارغة، لأنه لم يتدرب على إنتاج الأفكار من الصفر.
2. عندما يتحول إلى "أداة إلهاء" دائمة:
من الطبيعي أن يستخدم الأهل التلوين أحياناً لشغل وقت الطفل ومنح أنفسهم بعض الراحة. لكن عندما يصبح هذا هو الهدف الوحيد – مجرد وسيلة لإسكات الطفل أو إبقائه هادئاً لفترة طويلة – فإنه يفقد قيمته التفاعلية والتعليمية ويتحول إلى نشاط سلبي يمارسه الطفل دون وعي أو شغف حقيقي.
3. عندما يسبب الخوف من "الورقة البيضاء":
الاعتماد المفرط على الرسومات الجاهزة قد يخلق لدى بعض الأطفال "قلق عدم المثالية". قد يشعرون بأن رسوماتهم الحرة ليست "جميلة" أو "صحيحة" مثل تلك المطبوعة في الدفاتر. هذا الخوف من ارتكاب الأخطاء أو من إنتاج شيء غير مثالي قد يجعله يرفض تماماً تجربة الرسم الحر، وبذلك نكون قد قتلنا فيه روح التجربة والمخاطرة الإبداعية.
4. عندما يرتبط بالنقد الزائد والتركيز على الكمال:
يتحول التلوين من متعة إلى مصدر قلق عندما يركز الكبار على المنتج النهائي بدلاً من العملية نفسها. تعليقات مثل: "لقد خرجت عن الخط!"، أو "لماذا لوّنت السماء باللون الأخضر؟"، تحوّل النشاط إلى اختبار للأداء. هذا النقد المستمر يقتل المتعة ويعزز لدى الطفل فكرة أن هناك طريقة "صحيحة" وأخرى "خاطئة" للفن، وهو عكس ما يهدف إليه التعبير الفني تماماً.
إذن، الخطر ليس في وجود دفاتر التلوين، بل في أن تصبح هي المسيطرة على المشهد الفني للطفل، وأن ترتبط بالقيود والنقد بدلاً من الحرية والاستمتاع.
في النهاية، لا يُمكننا التقليل من أهمية أي نشاط يهدف إلى تنمية قدرات الطفل. التلوين الجاهز يُحقق أهدافًا واضحة تتعلق بالتركيز والدقة وتنسيق الألوان، بينما يُحفز الرسم الحر الخيال والإبداع. الحل الأمثل هو التوازن بين النشاطين لتطوير مهارات الطفل بشكل شامل، مع ترك مساحة كافية للاستمتاع والاكتشاف.
